في الوقت الذي كان فيه رئيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزة يحيى السنوار يلتقي المحتجزين والأسرى الإسرائيليين في غزة ويعدهم بالأمان ويطمئنهم على وضعهم ومصيرهم، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يجادل بعض أعضاء حكومته لقبول الهدنة التي عارضها في البداية، وقبِلها مُكرها بحكم حقائق الميدان والسياسة ولحدة المواقف الدولية ضد الهجوم الإسرائيلي الذي تحول إلى حرب على مستشفيات ومدنيين.
وبعد أكثر من 50 يوما على الحرب التي أعلنها نتنياهو، والتي قتلت إسرائيل فيها أكثر من 15 ألف فلسطيني، بينهم 70% من الأطفال والنساء، كما دمرت شمال القطاع وأجبرت حوالي مليون مدني من سكانه على النزوح قسرا إلى الجنوب، رضخت في النهاية إلى هدنة مؤقتة تخللتها صفقة لتبادل الأسرى على 4 مراحل مع تمديد أولي بيومين.
وفق غالبية التحليلات العسكرية فإن جيش الاحتلال الإسرائيلي وحكومة الحرب فشلا في تحقيق السقوف العالية من الهجوم على غزة بعد “طوفان الأقصى” وكانت إسرائيل تحتاج عمليا إلى الهدنة أكثر من المقاومة في قطاع غزة لأسباب سياسية وعسكرية وداخلية، خاصة بعد تآكل المبررات التي ساقتها حكومة الحرب دوليا بقيادة نتنياهو لتبرير القوة الغاشمة.
نتنياهو وخيبة الهدنة
تشير التحليلات الإسرائيلية إلى أن مجريات عملية إطلاق المحتجزين والأسرى من قلب غزة وبحضور لافت لعناصر القسام فيما يشبه استعراضا عسكريا وتلويح المفرج عنهم بالأيدي لأهالي غزة وعناصر القسام إلى أن هناك معركة أخرى خسرها نتنياهو، حيث شوهت “صورة النصر” التي كان يسعى لها رئيس الوزراء الإسرائيلي. كما بثت من خلالها المقاومة الفلسطينية رسائل عديدة عسكرية وسياسية وإنسانية.
ويقول المحلل السياسي مايكل كلارك في صحيفة ذا تايمز البريطانية “إن تل أبيب فقدت السيطرة على الحرب، وإن حماس كانت ماهرة وقادرة على المناورة من خلال تعاملها مع أزمة الأسرى”، ويشمل ذلك طريقة إطلاقهم وما ذكروه عن فترة احتجازهم التي قوّضت بشدة السرديات الإسرائيلية.
فرسالة الشكر التي كتبتها المستوطنة الإسرائيلية الأسيرة “دانيال ألوني” وتركتها لمحتجزيها (عناصر كتائب القسام) حول طريقة معاملتهم لها ولابنتها “إيميليا” ونشرتها المقاومة، ضربة موجعة لنتنياهو أمام الرأي العام الإسرائيلي والدولي، حيث تقول “يبدو أننا سنفترق غدا، لكنني أشكركم من أعماق قلبي على إنسانيتكم غير الطبيعية التي أظهرتموها تجاه ابنتي إيميليا.. الأطفال لا يجب أن يكونوا في الأسر، لكن بفضلكم وبفضل أناس آخرين طيبين عرفناهم في الطريق، ابنتي اعتبرت نفسها ملكة في غزة”.
كما كانت مقابلة السنوار للأسرى والمحتجزين، وهو “رجل ميت يمشي” وفق تعبير نتنياهو، وعدم تنازله عن أي من شروط الهدنة، رسالة عسكرية وسياسية في الوقت نفسه، تماما كما أظهر مشهد خروج الدفعة الثالثة من المحتجزين من “دوار فلسطين” وسط غزة -التي قالت إسرائيل إنها تحتلها- عناصر القسام بكامل جهوزيتهم مع هتافات الفلسطينيين في الشارع.
لقد تعددت رسائل المقاومة التي تفيد الصمود والسيطرة والاستعداد العسكري والسياسي، ووصلت إلى مئات آلاف الإسرائيليين الذين يشاهدون العملية وإلى حكومة نتنياهو، حيث عبّر عنها المحلل العسكري في موقع “والا” الإسرائيلي أمير بوحبوط بقوله “إن حركة حماس فقأت عين إسرائيل”، بينما علّق الكاتب “يديديا شطرين” عن ذلك في صحيفة يديعوت أحرونوت بقوله إن “السنوار أصاب بسهم مباشر كعب أخيل الإسرائيلي”، في استحضار منه للمثيولوجيا الإغريقية.
إعلان
وفي وقت ينقسم فيه المجتمع الإسرائيلي بشدة حول قضية الأسرى، ويتعرض نتنياهو لضغوط هائلة، استغلت حركة حماس الهدنة إعلاميا وسياسيا بشكل مناسب لتشديد الضغوط على رئيس الوزراء الإسرائيلي وزيادة إحراجه أمام مجتمعه، ومخاطبة الرأي العام العالمي، كذلك تفكيك وإسقاط الحجج التي بنيت عليها سرديات إسرائيلية مغلوطة ومواقف انفعالية.
خاضت المقاومة معركة وعي تزامنا مع إطلاق الأسرى والمحتجزين من الجانبين، حيث اكتشف العالم -الذي لم يكن يريد أن يعرف- أن إسرائيل كانت تحتجز أيضا نساء وأطفالا وأن حركة حماس عاملت أسراها، وفق شهاداتهم باهتمام وحرص إنساني شديد أمام العالم، بينما كانت إسرائيل تعامل الأسرى بأسلوب المهانة والضرب والتجويع والتهديد بالاغتصاب.
وبالعودة إلى 7 أكتوبر، لم يكن خيار الهدنة مطروحا أو مقبولا لدى نتنياهو، وكانت أهداف الحرب تتمثل في تحرير الأسرى والقضاء على حركة حماس وبنيتها العسكرية بالإضافة إلى تصفية قادة المقاومة وعلى رأسهم يحيى السنوار ومحمد الضيف قائد هيئة أركان كتائب القسام، ليضطر نتنياهو قبول الهدنة وشروطها دون تحقيق أي هدف من العملية العسكرية، ويزداد مأزقه الداخلي والخارجي كما وتحترق “صورة النصر” التي أرادها. وفي وقت بقي فيه، أكثر من 100 أسير لدى المقاومة، من المنتظر أن تكون قضية الأسرى، خصوصا العسكريين الإسرائيليين، حجر الأساس.
السقوط الأخلاقي وتحولات الرأي العام
بمقتضى المادة 40 من القانون الأساسي الإسرائيلي، زجت تل أبيب في حربها على غزة أكثر من 550 ألف جندي، بحسب ما ذكرته صحيفة “ذا تايمز” البريطانية، حيث استدعت 360 ألف جندي احتياطي، أي أكثر بـ20 مرة من القوة التي تنسبها لحماس والتي تقدر بـ25 ألف مقاتل. هذا التفوق لا يقتصر على أعداد الجنود، بل يمتد أيضا إلى التجهيزات العسكرية والتكنولوجيا المتقدمة.
ومع بدء المعركة البرية التي شنتها إسرائيل على غزة، تعقدت مهمة جيش الاحتلال الذي كان يسعى إلى تحقيق أهدافه العسكرية بشكل خاطف وسريع، فقد استطاعت إسرائيل نسبيا شطر غزة عسكريا إلى نصفين، لكن المقاومة دمرت 355 آلية عسكرية إسرائيلية، بمعدل 7 آليات يوميا، كما اعترف الجيش الإسرائيلي بمقتل أكثر من 70 جنديا منذ بدء هجومه البري على القطاع.
في الجانب الآخر، كانت محصلة 50 يوما من الحرب على غزة ورطة عسكرية وسقوطا أخلاقيا للجيش الإسرائيلي، وتغيرت خلاله بوصلة الرأي العام العالمي الذي كان متأثرا بالسرديات الإسرائيلية الغالبة، فقد بدأت الحملة بتصريح عنصري لوزير الدفاع يوآف غالانت حول سكان غزة وبقطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء عن أكثر من مليوني فلسطيني، وقصف المستشفيات ومراكز الإيواء والممرات الآمنة في ما يشبه “حملة إبادة جماعية”، كانت صادمة في وحشيتها، وأسقطت فيها إسرائيل كل المبادئ والقيم والأعراف والقوانين التي تتعلق بالبعد الإنساني في الحروب، حسب ما يقول منتقدوها.
وتبعا لذلك تقوضت “إجراءات الدفاع عن النفس” التي تبرر بها إسرائيل حروبها، والتي كانت تلقى صدى لدى الدول والمنظمات الغربية، حيث تتالت الأصوات المناهضة لها عالميا بمفعول الوحشية البالغة ضد المدنيين والبنية التحتية، لينتفي بعدها أي سياقات للحديث عن “انتصار” أو “صورة نصر” للجيش الإسرائيلي يجهد بنيامين نتنياهو في البحث عنها.
ويرى يوسي كلاين، في مقال له بصحيفة هآرتس، أن نتنياهو يختطف إسرائيل، وأنه يظن بأن “الانتصار” الذي يبحث عنه سوف يغفر له إخفاقه في الضربة التي تعرض لها الجيش يوم 7 أكتوبر- كما يقول- متسائلا عن تعريف النصر؟ “اسمحوا لي أن أخمن، هو نفسه (نتنياهو) لا يعرف. وفي كل الأحوال فإن انتصاره الذي يريده ليس انتصارا للإسرائيليين”.
الوعود الكاذبة ومأزق الداخل
يتصاعد أيضا الرفض الداخلي للحرب، حيث يرى جزء من الرأي العام الإسرائيلي أن الهدف كان يفترض إطلاق الأسرى والمحتجزين دون ورطة عسكرية وأخلاقية تكثفت بشكل يومي خلال المعارك في غزة، لكن السقف العالي للحرب الذي وضعه نتنياهو وحكومته شكّل عنصر أزمة وانقساما داخل المجتمع الإسرائيلي.
وخرجت مظاهرات عديدة ضد نتنياهو، تحمله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع وتتهمه بخوض “حربه الخاصة لإنقاذ سمعته” والبقاء في السلطة و”المضي قدما في تدمير بنيتنا التحتية الجماعية المتهالكة، الاجتماعية والاقتصادية والدفاعية”، على حد قول الكاتب يوسي فيرتر في صحيفة هآرتس.
وفي قراءته لما يجري، يعترف الكاتب ناحوم برنياع في مقالة له بصحيفة يديعوت أحرونوت بأنه “لا يمكن الانتصار في الحروب بالوعود الكاذبة”، في إشارة إلى الوعود التي أطلقها نتنياهو في البداية للقضاء على حركة حماس، وتحرير الأسرى.
ويرى برنياع أن حماس لا تزال قوية وتسيطر على الأرض، وأن قوتها تتجلى من خلال التفاوض على “الرهائن”، ومطالبها التي تنفذ أيضا في شمال القطاع الذي ينتشر به الجيش الإسرائيلي، وليس فقط في الجنوب.
من جهته، يعتقد رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق، غيورا آيلند أنّه “إذا قبلت إسرائيل بهدنة فهذا يعني أنّ الحرب انتهت دون القضاء على حماس، التي لا تسيطر على القطاع عسكريا فحسب، بل نرى هذا أيضا في المفاوضات والقدرة على التواصل، وتوفير احتياجات السكان من الطعام والوقود وغاز الطبخ وأمور أخرى”.
وتشير تلك التعليقات، إلى أن بنية المجتمع الإسرائيلي في حالة من الغليان والتفكك تحت وقع مجريات الحرب على غزة وفشل الحملة في تحقيق أهدافها واستمرار المعارك حيث تسبب في شلل اقتصادي جراء استمرار استدعاء جنود الاحتياط وسحبهم من سوق العمل وتعطل قطاعات عديدة، في وقت تقدر فيه كلفة الخسائر الاقتصادية الأولية بأكثر من 50 مليار دولار، وازدحام المطارات بالراغبين في الرحيل، إشارة إلى فقدان اليقين في مشروع إسرائيل ذاته.
مأزق الخروج من الورطة
عندما أطلقت المقاومة في غزة، بقيادة رئيس أركان كتائب القسام (الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس) محمد الضيف اسم “الطوفان” على الضربة العسكرية التي وجهتها لإسرائيل، كانت تعي جيدا مدى ارتباط الاسم عسكريا بنتائج الهجوم الآنية وتداعياته المستقبلية على الداخل الإسرائيلي وحكومة نتنياهو التي تضم أكثر زعماء الأحزاب الإسرائيلية تطرفا.
فنتنياهو يعتمد بشكل كبير على دعم أحزاب اليمين، بما في ذلك “الصهيونية الدينية” بزعامة المستوطن المتطرف بتسلئيل سموتريتش وحزب “القوة اليهودية” بزعامة اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، وكلاهما يدعمان التوسع في المستوطنات في الضفة الغربية، كما أنهم يفضلون في النهاية طرد الفلسطينيين من غزة لإعادة احتلالها.
وأشار موقع “والا” الإسرائيلي إلى أن بن غفير وسموتريتش، هددا بتفكيك حكومة نتنياهو، والانسحاب منها، واعتبر بن غفير أن “وقف الحرب يعني حلّ الحكومة”، وذلك بعد الحديث عن تمديد وقف إطلاق النار مقابل إطلاق سراح المزيد من الأسرى كل يوم.
ويعتبر موقع ستراتفور الأميركي أن حكومة نتنياهو تواجه تحديات في التعامل مع المطالب المحلية والدولية لخطة الوضع النهائي في غزة بعد الحرب، وذلك بفعل اعتمادها بشكل كبير على التحالفات اليمينية المتطرفة.
ويرجح الموقع الأميركي بألا يتنازل بن غفير وسموتريتش عن مواقفهما في ظل الضغوط الجديدة للتوصل إلى اتفاق حول غزة، ما يُعقد المشهد السياسي أكثر.
وفي مقابلة مع القناة الـ12 العبرية -قبل أسبوعين- قال بن غفير “أدعو الآن لاحتلال قطاع غزة”. إلى جانب ذلك، يشعر بعض أعضاء حزب الليكود الإسرائيلي بالقلق على مستقبلهم السياسي، نظرا لانخفاض شعبية الحزب، فقد أظهر استطلاع حديث للرأي العام أجرته صحيفة معاريف الإسرائيلية، بأن 27% فقط من الإسرائيليين يعتبرون نتنياهو ملائما لمنصب رئيس الوزراء فيما يرى 52% أن الوزير بمجلس الحرب بيني غانتس الأنسب لتوليه. كما أظهر الاستطلاع أن حزب “الليكود” سوف يحصل على 18 مقعدا لو جرت الانتخابات اليوم.
يؤشر ذلك إلى الانقسام الذي بدأ يشتد والأزمة السياسية الخانقة التي تعيشها إسرائيل على وقع مجريات الحرب في غزة والخلافات المتصاعدة في مقاربة الحل والحرب وصمود المقاومة الفلسطينية والتحولات في الرأي العام العالمي مع انكشاف وحشية العدوان الإسرائيلي وتآكل الذرائع والتخوف الدولي من اتساع رقعة الحرب، بينما يمضي نتنياهو مأزوما داخليا وسياسيا وعسكريا، ومرتبكا في الحرب والمفاوضات والهدنة والخروج من مأزق غزة وقد احترقت “صورة النصر” التي كان يريد الظفر بها.
المصدر : الجزيرة – زهير حمداني، طلال مشعطي