تحت عنوان: بين عالمين

يقتلُ الناسَ المخادعةُ، وترهقها الشوفنة، وتغتالها البأسنة، فذات نفسها بنفسها تبحث عن واقع تحيا فيه ولو بخيال في اذهانها لتغطي عجزها وفوضاها، ولتكفكف الآمها ومصائبها ودموعها المغطاة خلف ازرار هواتفها الذكية … تحيا غباء يعتريها، فتخدع ذاتها بين عالمين متناقضين..

عالم واقع مرير وعالم افتراضي خطير.

نعم، نحن البشر، في عصر التطور والالة الاخذة بنسخ الانسان في ذاتها، والهواتف الذكية التي تسيطر على عقولنا الغبية…، نعيش في عالمين متوازيين:

– عالم التواصل الاجتماعي في عالم افتراضي يحكمه التخادع

و

– عالم التكاذب الاجتماعي في عالم واقعي يغتاله التنازع

وفي هذين العالمين تسيطر الاحقاد والانانيات على حد سواء على بسمة ثعلبٍ، وحقد ذئبٍ وصلاة الحراذين، وصياح الديكة وكعكعة الدجاج…

عالم ينافق بعضه البعض، ما في قلبه ليس ما على صفحته، وما على صفحته لا يعكس حقيقة حياته ومختلجات عقله …

اناس تحيا الواقع على قطيعة اجتماعية، وخلافات عائلية، ومشاكل اقتصادية، وحياة كلها خربطة بخربطة تختلق مشاكلها، وتصنع ازماتها، وتغذي خلافاتها، وتسقى سقي الزرع في نفوسها البغضاءَ والاحقاد والكره.

وعلى وسائل التواصل تعيش التكاذب، وتظهر سمو النفوس، وعلاء المكانة، ورصانة المواقف، وتتبسم هنا، وترسم الضحكات هناك، وتظهر انها في أحسن حال هنا وهناك، وتراغي هذا وتماري ذاك، وتخطب ود هذا وترشح زيتاً مقدساً على ذاك، تنسج خيالاً هنا وتعيش سعادة كاذبة هناك.

الأنكى والاشد فضاضة بين هذين العالمين، ان العالم الواقعي الحقيقي مؤلم يسوده البلاء والتشظي، والعالم الافتراضي الخيالي مُحزن يسوده العلاك المصدي.

فالناس لا تتذكر من حياتها الا المواقف المؤلمة، وتنسى كل المواقف الجميلة، ولا تستجلب الا مواقف الاذية والخلافات، وتستبعد كل المواقف التي تقرب النفوس فيما بينها لتؤلف بينها.

عبثية الحياة ان الناس ترى اخطاء غيرها ولا ترى اخطاء نفسها.

الناس ترى مصائب غيرها ولا ترى مصيبتها التي تعيش فيها.

تشاهد زبائل الاخرين التي تحيط بها، ولا ترى الزبائل التي تغرق فيها.

ترى هموم البشر كلها ومشاكلها، ولا ترى مصائبها ومشاكلها التي تطمرها…

ترى ثياب الاخرين وما يأكلون وما يشربون، وكيف يصلون وماذا يتعبدون، ولا ترى جوعها وفقرها وتعبها وشقائها الذي اوصلها الى الحضيض حتى الكفر برب ما يؤمنون.

ترى كل ما في الاخرين من خلل ولو كان مقياس ذرة، ولا ترى الخلل الذي فيها ولو كان حجم جبل…

اي حال هي هذه الحال بين البشر؟!

تقتلها الانانيات، وتسيطر عليها النزاعات، ولا تبحث عن لحظة فرح حقيقية لتحل مكان الالم الذي تحياه بصمت الواقع الحقيقي وصخب وسائل التواصل الاجتماعي!…

كل هذا، لسبب بسيط: لأننا نعيش في عالمين متوازيين..

عالم الواقع الاجتماعي المتشرذم بين المتاهات والمتاعب، ومطالب الحياة الضاغطة.

و

عالم التكاذب الاجتماعي المتشظي بين التفاهات والصور المخادعة عن راحة بال مصطنعة.

الى متى سيبقى هذا العالم على هذا الحال، والى اي منزلق ينزلق؟!

رجالٌ تعيش جحيماً مع نسائها في منازلها، ثم تصبح فجأة خارج منازلها مُصلحة اجتماعية، ودكاترة علوم متخصصة في التربية والحنان، ولديها لكل ازمة حل!!

عائلات مشتتة فيما بينها تختلق مشاكلها على أتفه الاسباب، ثم تظهر على وسائل التواصل صور الرقي والكمال بتصنع المظاهر والاشكال.

اناس لا تعطي أنفسها فرصة قراءة صفحة في كتاب، او كتابة نصف سطر على ورقة بيضاء، فجأة على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر نفسها وكأنها المثقفة ذات الباع الرفيع، وتقرأ على صفحاتها اسماء المفكرين والعلماء والباحثين والكُتّاب.. قال فلان وحدّث علاّن..، وجل ما تراه مجرد سرقة، ونسخ، ولصق حتى دون معرفة محتوى ما ينقلون، او حتى ان يفهموا مقاصد ما ينقلون من مقاطع مركبة، وصور مزخرفة، ومقولات مفبركة، وأحاديث مهشتكة …

هي بكل تأكيد تحيا مرض الانفصام ليس بالشخصية فحسب، انما الانفصام النفسي، والثقافي، والاجتماعي وحتى الاقتصادي..

فكثير من تلك الصفحات اصحابها لا يجدون ما يأكلون أحيانا، وتراهم خبراء في الاقتصاد، والاجتماع، والسياسة وكأنهم لولا وجودهم لانهار الكون بما فيه لولا حكمة ربانية وضُعت فيهم على عجلٍ في الخلق الأول …

نكتفي بهذه السردية كي لا نهين أحد..

فالناس مشاكلها التي فيها تكفيها، فلن نزيد عليها همّاً على همٍّ

ولكن.. للعلم والتعقل والتفكر.. عقلك للاستخدام لا للتأجير ايها الانسان..

وليس الطائر يأكل رزق غيره..،

وليس افعى تعيش في جحر اخرى،

وليس العنز تغار من نعجة لتتشفى بها،

وليس الحمارة تحسد البقرة على نعيمها لتختال بذاتها،

وليس عصفور الدوري يخدع البلابل والحساسين بأعشاشها ليجذب عطف بني البشر لسجنها..

هي طبيعة المخلوقات لكل في ذاتها نصيب الا البشر… قتلتها الانانية حتى قضت على روح الانسانية فيها، وباتت كل نفس تريد قضم روح الاخر، واكل لحم بعضها نيئا لإشباع رغباتها.

عالمان متوازيان تآكلهما الفراغ، والفوضى، والهذيان الى درجة يصعب قياسها تذهب بهذين العالمين معا الى حتفهما الأخير.

فهل يستيقظ الانسان قبل يوم عصيب… لا منه مهرب ولا مفر…؟!

قتل العقل مذلة البشرية.

الدكتور هاشم حسين

هاشم حسين

باحث في علم الاجتماع

كوتونو-بنين

30\03\2023

شاهد أيضاً

تأكيدا لتصريحات الروس مسؤولون أمريكيون يؤكدون أن الطائرة “إيل-76” أُسقطت بصاروخ “باتريوت”

أكد مسؤولون أمريكيون لصحيفة “نيويورك تايمز” اليوم الخميس، أن الطائرة “إيل-76” التي كانت تقل أسرى …

اترك تعليقاً