بدأت محكمة العدل الدولية (أعلى محكمة تابعة للأمم المتحدة) في لاهاي أولى جلساتها بشأن الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا على كيان العدو الاسرائيلي بارتكاب إبادة جماعية. وهي تُعد المرة الأولى التي تجري فيها مقاضاة العدو على الانتهاكات التي يرتكبها في حق الشعب الفلسطيني.
وفي السياق، أعلن وزير العدل في جنوب أفريقيا رونالد لامولا أن “”إسرائيل” تحاصر غزة وتمنع الدخول براً وبحراً وهي جهة احتلال”، مضيفاً أن الكيان شنّ “هجوماً كبيراً على غزة وانتهك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية”.
وكيل دولة جنوب أفريقيا أكد أمام محكمة العدل الدولية موزيك أن “”إسرائيل” تخضع الشعب الفلسطيني لنظام فصل عنصري”، متابعاً “شهدنا نكبة الفلسطينيين منذ عام 1948 وممارسات الاحتلال ضدهم وإفلاته من العقاب”.
فريق جنوب أفريقيا: لاتخاذ المحكمة اجراءات مؤقتة قبل البت في القضية
الفريق القانوني لجنوب أفريقيا أعلن أن الفلسطينيين “يتعرضون إلى قصف لا يتوقف أينما يذهبون ويقتلون في كل مكان يلجأون إليه”، كما أن “أكثر من 80% من سكان غزة يعانون من الجوع”. وتابع الفريق أن “الجنود الإسرائيليين يلتقطون صوراً لأنفسهم وهم يحتفلون بتدمير المدن والقرى”، وأن “مئات من العائلات في غزة مسحت بالكامل ولم يبق منها أي فرد على قيد الحياة”.
وانطلاقاً من ذلك، أكد الفريق أن العدو “مستمر في إنكار مسؤوليته عن الأزمة الإنسانية التي خلقها في قطاع غزة”، مطالباً المحكمة بفرض اجراءات مؤقتة قبل البت في القضية، بما أن “فشل المجتمع الدولي في مواجهة الأزمة الإنسانية في غزة سيكون له تداعيات عالمية”.
كما لفت الفريق في مداخلته أمام المحكمة أن “أعمال القتل الإسرائيلية كبيرة جداً وجثث الفلسطينيين تدفن في مقابر جماعية”. وقال الفريق إن “المصابين في قطاع غزة محرومون من الرعاية الصحية اللازمة لإنقاذ حياتهم”، لافتاً إلى أن “الأمراض والجوع تفتك بقطاع غزة”، وأن العدو “يتعمد اختلاق ظروف تحرم الفلسطينيين من المأوى والمياه النظيفة”.
هذا وأشار الفريق إلى أن “ما يدخل قطاع غزة من مساعدات لا يكفي حاجة سكانه”،وأن “شاحنات المساعدات التي تدخل قطاع غزة تخضع إلى 3 مراحل من التفتيش”، موضحاً أن “”إسرائيل” فرضت عن عمد ظروفاً في غزة لعدم السماح بالعيش والتدمير الجسدي للفلسطينيين”.
وفي هذا السياق، أكد فريق جنوب أفريقيا أن “ما أثبتته الوقائع في قطاع غزة يقتضي تدخل محكمة العدل الدولية”، مضيفة أن “”إسرائيل” يتّمت أعداداً كبيرة من الأطفال في قطاع غزة، كما تقصف وتقنص النساء والأطفال في قطاع غزة”، وأن “الجنود الإسرائيليين يؤمنون بأن إجراءاتهم في غزة مقبولة”.
“اتفاقية منع الإبادة تهدف لحماية الشعوب وواجب المجتمع الدولي منع انتهاكها”، أكد الفريق، مستطرداً أن “هناك مؤججون ومحرضون على ارتكاب الإبادة الجماعية في “إسرائيل” منهم رئيس الحكومة”.
العدل الدولية: الدعوى تهدف إلى وقف فوري للعمليات العسكرية
من جهتها، قالت محكمة العدل الدولية إن “دعوى جنوب أفريقيا تطالب “إسرائيل” بالوقف الفوري لعملياتها العسكرية في قطاع غزة”.
خشية لدى العدو
يُذكر أن العدو كان قد وافق على المثول أمام المحكمة وحضور الجلسات يومي 11 و12 يناير/كانون الثاني الجاري، من أجل دحض ما وصفه بالاتهامات “السخيفة التي تفتقر إلى أي أساس واقعي أو قانوني”، حسب زعمه. لكن الصحافة العبرية أكدت “وجود خشية جدية في المؤسستين الأمنية والنيابة العامة الإسرائيليتين من أن توجه محكمة العدل الدولية اتهامات لـ “إسرائيل” بالإبادة الجماعية”.
وستتناول جلسات الاستماع مطلب جنوب أفريقيا بفرض إجراءات طارئة، وإلزام العدو بتعليق عملياتها العسكرية في غزة في حين ستنظر المحكمة في حيثيات القضية، وهي عملية قد تستغرق أعواماً. لكن ورغم أن أحكام محكمة العدل الدولية نهائية وغير قابلة للطعن، لا توجد أي وسيلة لتنفيذها أو الإلزام باحترامها، لكن من شأن صدور حكم ضد “إسرائيل” أن يشكل سابقة قانونية وأن يعمق عزلتها ويضّر بسمعتها دولياً.
عن الدعوى
ورفعت جنوب أفريقيا في 29 ديسمبر/كانون الأول دعوى قضائية ضد “إسرائيل“ في محكمة العدل الدولية، بلاهاي، مطالبة المحكمة بأخذ إجراءات من أجل حماية الفلسطينيين خلال الحرب الوحشية التي يخوضها الاحتلال ضد القطاع منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وتؤكد جنوب أفريقيا في الدعوى المؤلفة من 84 صفحة أن “أفعال إسرائيل وأوجه تقصيرها تحمل طابع إبادة لأنها مصحوبة بالنية المحددة المطلوبة (…) لتدمير فلسطينيي غزة كجزء من المجموعة القومية والعرقية والإثنية الأوسع أي الفلسطينيين”.
وتشير الدعوى أيضا إلى أن سلوك “إسرائيل” “من خلال أجهزة الدولة ووكلاء الدولة وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل بناء على تعليماتها أو تحت توجيهها أو سيطرتها أو نفوذها”، وهو ما يشكل انتهاكا لالتزاماتها تجاه الفلسطينيين في غزة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.
أفعال “إسرائيل” وأوجه تقصيرها تحمل طابع إبادة لأنها مصحوبة بالنية المحددة المطلوبة
هل تجبر جنوب افريقيا العدو على وقف الإبادة؟
يُذكر أنه سيستمع القضاة الـ15 لمرافعة جنوب افريقيا حول هذه الدعوى، يضاف إليهم قاضيين من جنوب افريقيا والكيان الإسرائيلي. وبحسب بحسب ميثاق المحكمة، يحق لأي دولة وقعت على اتفاقية تخص مجريات المحكمة الدولية أن ترفع قضية في المحكمة الدولية، والعدو من ضمن مجموعة الدول التي وقعت على الاتفاقيات عام 1948. أما أحكام المحكمة في الإبادة الجماعية في حال وافقت على الدعوى، فتكون ملزمة.
التحدي الأبرز هو أن تثبت المحكمة أنها غير مسيسة ولا تتعرض إلى ضغوط، إذ إنه إذا أثبتت ذلك ستعلن اختصاصها بالنظر بهذه الإبادة الجماعية، وإذا أكدت اختصاصها فإن على “اسرائيل” أن تلتزم بوقف الإبادة فوراً إلى حين صدور الحكم بالدعوى، ومن المفترض أن يتم وقف الحرب والحصار ضد أهالي غزة وإدخال المساعدات فوراً.
مما لا شك فيه، حسبما أكد خبراء، أن هذه المحاكمة ستؤثر على صورة كيان الاحتلال أمام الرأي العام، لكن “في نهاية المطاف يمكن أن لا تحاكم “إسرائيل” كلياً إلا أن مجرد رفع الدعوى والنظر بها هو أمر مهم من الناحية القانونية، خاصةً أن هناك سابقة للمحكمة تتعلق بجدار الفصل العنصري عام 2004.
تاريخ من الجرائم
من زاوية تاريخية، اعتمدت “إسرائيل” والعصابات الإسرائيلية قبل نشأة الكيان على ارتكاب الجرائم الوحشية التي كانت تهدف إلى الترويع وتهجير الفلسطينيين من أرضهم، وتشير أبحاث لمراكز فلسطينية إلى وقوع أكثر من 100 مجزرة كبرى منذ عام 1947 تتوفر فيها جميعا مقومات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي، لكن “إسرائيل” بقيت خارج دائرة المحاسبة.
وبشواهد التاريخ وما ترتكبه “إسرائيل” في حربها الوحشية على غزة لا تحتاج الجرائم ضد الإنسانية وفقاً للمادة 7 من نظام روما الأساسي إلى إثبات، بما فيها القتل والإبادة والاستعباد والترحيل أو النقل القسري للسكان والسجن والتعذيب أو أي شكل آخر من أشكال الحرمان الخطير من الحرية البدنية، بما يشكل انتهاكاً للأحكام الأساسية للقانون الدولي.
وتشمل تلك الجرائم أيضا اضطهاد أي جماعة أو مجتمع محدد لأسباب سياسية أو عنصرية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية والإخفاء القسري للأشخاص وجريمة الفصل العنصري والأفعال غير الإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تسبب عمدا معاناة شديدة أو ضررا جسيما للسلامة البدنية أو الصحة البدنية أو العقلية.
وتجري تلك الأفعال التي تدخل ضمن خانة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بشكل يومي في الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، عبر أدلة واضحة وموثقة بالصوت والصورة دون أدنى شك كونها “تسبب عمدا معاناة كبيرة أو ضررا جسيما للسلامة الجسدية أو الصحة البدنية أو العقلية للسكان المدنيين”.
وأكدت معظم المنظمات الحقوقية وذات الطابع الإنساني والإغاثي مثل منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومن رايتس ووتش وأطباء بلا حدود ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ومنظمة الصحة العالمية، والصليب الأحمر الدولي على الطابع الإجرامي للأعمال العسكرية الإسرائيلية ضد السكان المدنيين، وحتى ضد موظفي الهيئات الدولية.
العدو غرق في خطاب الإبادة
وفي مقابلة للمؤرخ الإسرائيلي راز سيغال، الأستاذ بقسم أبحاث الهولوكوست والإبادة الجماعية في جامعة ستوكتون الأميركية مع قناة “بريكينغ بوينتس” على يوتيوب يشير إلى أن “إسرائيل غارقة بعمق في خطاب الإبادة الجماعية، ويظهر ذلك في الإعلام والسياسة وفي الحياة العامة”.
وأشار أيضا إلى وجود لافتات كبيرة على الجسور والطرقات العامة تدعو لتسوية غزة بالأرض وتدميرها، مضيفا أن الأمر “لا يحتاج إلى شهادة في الأدب المقارن لتفسير مثل هذه العلامات والتعابير”.
وفي 12 ديسمبر/ كانون الأول دعا سيغال في كلمة أمام مبنى الأمم المتحدة في نيويورك إلى “أن تكون هناك نية وفعل لتسمية الأحداث بالإبادة الجماعية في إطار اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فالتصريحات العديدة للقادة الإسرائيليين تكشف عن نية تدمير الشعب الفلسطيني”.
كانت هناك أيضا ردود فعل احتجاجية على الجرائم الإسرائيلية في غزة، إذ استقال مدير مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان في نيويورك، المحامي كريغ مخيبر في 31 أكتوبر/ تشرين الأول من منصبه، احتجاجا على ما سماه الصمت تجاه “حالة نموذجية من الإبادة الجماعية في غزة”، كما أشار المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو في 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى أن “الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل يمكن أن تشكل حالة إبادة جماعية”.
من هو أهارون باراك؟
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن وقوع اختيار حكومة الاحتلال على القاضي أهارون باراك، أثار انتباه المتابعين، بعد أنباء أولية كانت ترجّح فرضية تكليف أحد القضاة الأميركيين بتلك المهمّة.
وفي هذا الصدد، يشير أستاذ القانون ورئيس برنامج الأمن القومي والقانون في “معهد الديموقراطية في إسرائيل”، أميحاي كوهين، إلى أن استعانة حكومة نتنياهو بباراك، تُعدّ ملحوظة لسببَين: الأول، هو نية الأخيرة إرسال رسالة مفادها “أنها تأخذ الشكوى المقدّمة ضدّها على محمل الجدّ، وأنها بصدد القيام بكل ما في وسعها لإنجاح مساعينها”، في رد الدعوى وإثبات بطلانها، فيما يتّصل الثاني بمحاولتها الاستفادة من نجاح باراك في تسويق نفسه كـ”شخصية مستقلّة”، على نحو يدفع عنه التهم التي قد توجَّه إليه من قِبَل الداخل والخارج، على أنّه “مبعوث للحكومة الإسرائيلية”، في إشارة إلى تخوّف نتنياهو من تضاؤل حماسة حلفائه الغربيين لدعم ائتلافه الحكومي وممارساته في غزة.
وفي هذا السياق، قال الصحافي الإسرائيلي، عميت سيچال “بما أن الدعوى القضائية مبنيّة على ادّعاء بالإبادة الجماعية، وهو مفهوم تطوّر في القانون الدولي بعد المحرقة، فإن تعيين أحد الناجين من المحرقة يُعدّ أمراً على درجة من الأهمية”.
المصدر: موقع المنار + مواقع إخبارية